أقدم هنا قراءة جمالية للرواية، تاركا للقاريء فرصة اكتشاف التفاصيل التي تغري بالتتبع.
تقع الرواية في 143صفحة من القطع المتوسط، تبدأ باستلهام شخصية مهاجرة "إدريس"، الذي يعود لقضاء العطلة السنوية، ومعه يبدأ الحكي، وكأن الراوي لا يسعفه السرد إلا مع صديق الطفولة الذي يستفزه بالحضور المعتاد سنويا، مع ما يصاحب هذا الحضور من طقوس، فهل الراوي يكتب لنا سيرة ذاتية أم رواية، أم هو لا يكتب بل يتحدث مع صديقه العائد من أوربا؟.
العنوان:"امرأة حلم أزرق"عنوان ذو حمولة مثقلة بالدلالات:فالمرأة لها دلالاتها المتعددة، قد تكون الأم أو الأخت أو العشيقة أو الزوجة أو العمة أو الخالة.والحلم الذي نعرفه يصاحب النوم، غير أنه هنا ملازم لليقظة، والأزرق له دلالات في ثقافتنا، فهو ذاك السهل الممتنع، وهو الضوء الهارب، وهو ما لا يمكن الوصول إليه...
كلها دلالات تغري بالدخول إلى عالم الرواية من أجل سبر أغوارها ومكنوناتها، عسانا نفك رموز تيمة العنوان.
ويبدأ السرد حيث يتوزع إلى 23فصلا جاءت كالتالي:
1- إدريس.
2- العد والحساب
3- ما شفته/مشهد1.
4- الأزرق.
5- اللعب.
6- رغبة الذات.
7- ما شفته/مشهد رقم2
8- نهار القبض على محسن.أ
9- من يؤدي الثمن؟
10- ذقون الرجال.
11- بحث
12- ما شفته/مشهد رقم3
13- حالة سريالية
14- نهار القبض على محسن- ب-
15- الدفة
16- منطق أنثى
17- هو وهي
18- الحبس
19- وماذا بعد
20 - موت
21- البحر
22- قوارير إدريس
23- البدء في الكتابة.ويتجلى من خلال استعراض هذه الفصول، عدة تجليات أجملها في:
1- حضور المرأة بكل تلاوينها:
وقد كتب النقاد في هذا الصدد ما فيه الكفاية، وقت تجلت لي المرأة في الرواية كأمرأة شرسة، وامرأة وديعة، وامرأة جميلة، وامرأة فاتنة، فهي تتلون كل مرة بلون، فهي حلمٌ، كل ليلةيتجلى بمظهر مغاير، ثم هي لون أزرق يغري لكنه لا يفصح لك عن دواخله، هو جذاب من بعيد، مغلق من قريب.
2- تجليات الأمكنة:
- يتجلى البحركمكان يستوحي منه الكاتب إلهامه، ويفرغ فيه همومه، وقد خصص للبحر في ص127 فصلا مستقلا..
- ثم تتوالى الأمكنة في الحضور:الدار البيضاء، الرباط، كمدينتين عايشتا الأحداث، وفي الدار البيضاء يختص حي الأحباس بالحضور المتميز.
وتتجلى فرنسا في الرواية دون التقاط صور مفصلة عنها، فمنها يأتي ادريس صديق الطفولة وإليها يعود.
- وتتجلى المقهى كمكان بالتعريف، وكأن الكاتب يوهمنابأن مقهاه التي يرتادها نار على علم، فهي في منطقة شعبية أصيلة، بحي الأحباس، ومن لا يعرف هذا الحي بكل تفاصيله، بهندسة معماره، بدور النشر المنتشرة فيه ومكتباته المتميزة، ومقاهيه ومساجده ومحلات بيع الملابس التقليدية وناسه وقصر الملك والمحكمة وغيرها من المميزات التي تغري بالعودة للمكان، بل والإدمان على الحضور إليه.
3- تجليات الوحدة:
إدريس الغائب الحاضر، فهو صديق الطفولة، بل الصديق الوحيد لدى الكاتب، إدريس هاجر، سافر إلى فرنسا وترك الكاتب وحده، فرغم وجود أصدقاء آخرين، فالكاتب يحس بالوحدة في غياب إدريس، وبالأنس عند مقدمه في الصيف.
4- تجليات الألوان:
يفرد الكاتب للون الأزرق فصلا تحت عنوان:الأزرق، ص:27.
الكاتب مهووس باللون الأزرق، إلى الحد الذي يجعله يُؤنسنُ هذا الشيء الذي هو اللون الأزرق.
حتى في المرض يتجلى اللون الأزرق، في مرض الكبد.
ويرتقي الكاتب في ص30ليعطي مدلولات لهذا اللون الذي يستهويه.ثم يجعل من اللون الأزرق يتلون، من لون البحر الملهم إلى لون المرض المقزز، إلى لون العنف.
5- تجليات الشخوص:
إدريس صديق الطفولة، حاضر في كل فصول الرواية إن حضورا بالفعل أو بضمير غائب.
الركراكي الودادي، سي لحسن متعهد المقهى والمرأة ذاك الحلم الأزرق.
فالشخوص لم يعتبرها الكاتب سوى تأثيت لفضاء الحكي الذي ينصب على المرأة التي تظهر وتختفي وهو يتتبع خطواتها، مع ما يلازم هذا التتبع من تأذية الضرائب كان أقلها السجن.
القاموس المستعمل:
قاموس أنيق ينم عن أناقة السارد، وأناقة الحياة التي خاضها، فهو هنا يتحدث عن واقع الحال.
مضامين الرواية:
الرواية هي مسلسل بحث عن امرأة من نوع آخر.الجري وراء امرأة متمنعة، امرأة لا تشبه النساء، امرأة تحمل في أحشائها بعضا من الراوي، وترفض الزواج منه، امرأة تهرب حين يبحث عنها، وتبحث عنه حين يختفي، امرأة تلعب مع السارد لعبة القط والفأر، هذه هي المرأة التي بلون البحر، زرقاء، وهي التي جعلت الحلم لديه يختلط بالحقيقة.
في تتبعه للبطلة- المرأة-، يستعرض الكاتب مجموعة من الظواهر الإجتماعية كالنداء المطالب بإعطاء المرأة حقوقها، ودوافه اللواتي تقفن خلف هذه المطالب، ص114:"أكثرية هؤلاء الصارخات، ذميمات، قبيحات، وعقيمات وفاشلات في الحب والزواج، لكنهن ذكيات، يعرفن ما يقلن ويفعلن...
يعرفن من أين تؤكل الكتف ...
إنهن يضحكن على الذقون...".
تتخلل الحكاية التيمة، استعراض لرؤية الكاتب وفلسفته في الحياة ص126:"على هذه الحياة الفانية، والتي نقضي فيهاعمرنا كله، نلهث وراء الكسب والنجاح والثروة، نصارع ونكابد ونمارس النفاق الإجتماعي والغش والنميمة والكذب على ذواتنا قبل الكذب على الآخرين...".
تنتهي قصته مع المرأة الزرقاء، وتستمر الرواية لتصور لنا الحياة العادية للناس والأمكنة بشكل روتيني، وكأن الكاتب يريد أن يرسل رسالة للقاريء بأن الرواية صور من الحياة.
وختم الكاتب روايته بقوله:"الليلة أبدأ الكتابة"، وهي آخر جملة في الرواية، فكل ما دار من حكي خلال ال143 صفحة لم يكن كتابة، وإنما تصوير للواقع المعاش، فماذا سيكتب إذن بعد هذا؟هل مجريات الأمور التي صورها لنا الرواية ستلهمه ليقول ما لم يقله؟أم أنه سيدخل إلى علم آخر في السرد؟.
طريقة السرد:
يتتبع الكاتب التفاصيل الدقيقة، حتى أصغر الأشياء والأشياء التي لا ترى يرصدها، وهذا يعتبر تميزا له و خصوصيته يتحلى بها في الوصف والتصوير ونقل الواقع بأمانة غاية في الدقة.
جاء القاموس عربيا فصيحا، تتخلله بعض الكلمات المألوفة في اللهجة المنطوقة في المغرب، وهي خليط بين العربية والفرنسية:"طلق مني أسي.." "ساعة سووتش" "شكون أنت" "ما تنعرفكش" "البوليس آخوي"...
الرواية عبارة عن لوحات، ما يربطها هو المرأة التي عنها يحكي الكاتب، وإلا ففي كل عنوان قصة ذاتية، أو مشهد من مشاهد معيش الكاتب.
تبدأ الرواية بمجيء إدريس من الغربة وتنتهي بذهابه، وكأن الراوي يحكي عن عطلة من عطل إدريس المهاجر، الكاتب هنا يوهمنا أنه يصور لقطات من الحياة، بينما هو يحكي عن ويبوح بما يثقل كاهله، وما يعتمل داخل نفسه من غصة.
تحية للأديب القاص والروائي عبد الحميد الغرباوي، الذي أتمنى له دوام التألق.
معى تحياتي همام الجبوري